قصة تأسيس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
في أواخر عام 1958، وبعد دراسة مستفيضة، بدأت ملامح فكرة عظيمة في التبلور داخل أروقة كلية الحقوق بجامعة القاهرة. كان الأستاذ المساعد رفعت المحجوب يجلس في مكتبه بقسم الاقتصاد والمالية العامة، يتبادل الحديث مع زميله وشقيقه الأكبر الأستاذ الدكتور زكي شافعي، مؤسس علم النقود والبنوك في مصر. هنا، ولد اقتراح سيغير مسار التعليم الاقتصادي والسياسي في مصر.
الحاجة إلى التخصص: رؤية استباقية
اقترح الدكتور المحجوب على زميله الدكتور شافعي أن الوقت قد حان لإعداد مذكرة لإنشاء كلية مستقلة ومتخصصة في الاقتصاد بمصر. في ذلك الوقت، كانت أقسام الاقتصاد والمالية العامة منتشرة ضمن مؤسسات تعليمية أخرى، مثل قسم الاقتصاد والمالية داخل كلية الحقوق (حيث يعمل المحجوب والشافعي)، وأقسام الاقتصاد داخل كليات التجارة في جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية وغيرها.
كانت فكرة الدكتور المحجوب تقوم على أن هذه المؤسسات التعليمية كانت محترمة، لكن التخصص الدقيق في علم الاقتصاد، وتطوره المستمر، يتطلب كلية مستقلة بذاتها. رؤيته كانت مستوحاة من نماذج عالمية ناجحة مثل London School of Economics (LSE) في المملكة المتحدة، والتي كانت في ذلك الوقت رائدة في التعليم الاقتصادي العالمي.
شراكة الفكرة والخبرة: “اكتب أنت المذكرة”
لم يتردد الأستاذ الدكتور زكي شافعي. أجاب الدكتور المحجوب بحماس: “إذاً اكتب أنت المذكرة وأنا متضامن معك وسوف أساعدك في التفاصيل الإدارية لسابقة خبرتي. على أن نضع خطة زمنية ونعد لائحة للكلية لنرى ما سوف نضم من أقسام (مثل العلوم السياسية والإحصاء) وتشكيل أعضاء هيئة التدريس بالكلية من جامعات مصر.”
كانت هذه مجرد بداية لرحلة طويلة من التعاون. وبعد أقل من أسبوع، كان الدكتور المحجوب قد انتهى من صياغة الورقة، وتمت مراجعتها مع الزملاء وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور زكي شافعي. اتخذ القرار بالذهاب إلى رئاسة الجمهورية لتقديم الطلب.
حوار القيادة: من يقدم الطلب؟
هنا وقع خلاف طريف بين الصديقين. طلب الدكتور المحجوب من الدكتور شافعي أن يذهب هو لتقديم الطلب إلى مكتب رئيس الجمهورية، بصفته الأكبر سنًا والأقدم أكاديميًا، على أن يرتب له المحجوب الموعد مع النائب علي صبري لمقابلة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
لكن الدكتور شافعي رفض بشدة، قائلاً: “لا لا لا، اذهب أنت يا دكتور رفعت. علي صبري صديقك وأغلب قيادات الجيش يعرفونك حق المعرفة من خلال محاضراتك لهم.”
رد المحجوب: “ولكن الأصول تقول إن حضرتك يا دكتور زكي هو من يجب أن يذهب.”
فأجاب شافعي: “لماذا وعلى أي أساس؟ أنت صاحب الفكرة وأنت من صاغ ورقة الإنشاء!”
قال المحجوب مقنعًا: “أولًا: لأنك أقدمنا في الدرجة وأكبرنا سنًا، وتلك هي الأعراف الأكاديمية. ثانيًا: الذي يجب أن يقدم أوراق إنشاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية هو عميد الكلية القادم.”
دهش الدكتور شافعي وسأل: “من قال إني سوف أكون عميد الكلية؟”
فرد المحجوب بهدوء وثقة: “ومن منا يصلح أن يكون أول عميد لكلية الاقتصاد إلا الأستاذ الدكتور زكي شافعي؟! فأنت الأستاذ والأخ الأكبر، ونحن مازلنا أساتذة مساعدين، ولا أعتقد أن أحدًا من الحضور سوف يعترض أو حتى يفكر في الترشح أمام سيادتكم.”
القرار التاريخي: “على بركة الله”
وقد كان. ذهب الدكتور المحجوب إلى النائب علي صبري، الذي كان قد تشاور معه من قبل في الموضوع وأخذ الموافقة المبدئية من الزعيم جمال عبد الناصر.
بعد حوالي أسبوع من تقديم الطلب، تلقى الدكتور المحجوب مكالمة هاتفية في منزله من النائب علي صبري، قائلاً له: “مبروك يا دكتور رفعت، فقد وافق الرئيس جمال عبد الناصر على الطلب. يلا شد حيلك علشان نفتتح الكلية في أعياد ذكرى ثورة يوليو هذا العام.”
سأل المحجوب بدهشة: “وقد وافق الرئيس فعلاً، وبهذه السرعة؟!”
رد صبري: “نعم ورحب جداً كمان. أنا كنت أخطرته من قبل وكان يسأل كل فترة عن الطلب، ولما عرف أنك أنت من صاغ الطلب رحب أكثر وقال على بركة الله… والقرار في يدي، ‘قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة رقم 91’.”
وبالفعل، تم إنشاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لأول مرة في مصر عام 1959. وكان أول عميد للكلية العالم الجليل وأستاذ الأجيال ورفيق درب رفعت المحجوب على مدار خمسة وأربعين عامًا من العمل الأكاديمي،
الأستاذ الدكتور زكي شافعي في عام 1961. وبعد ذلك، تناوب على منصب عميد الكلية أساتذة من قسم العلوم السياسية، ثم قسم الاقتصاد، وهكذا بالاتفاق والاحترام، لا بالصراع والفتنة.
في أكتوبر عام 1971، انتخب الدكتور المحجوب عميدًا للكلية لأول مرة، قبل أن يصبح نائب رئيس مجلس الوزراء والأمين الأول للاتحاد الاشتراكي العربي. وانتخب المحجوب للمرة الثانية عام 1981، قبل أن يصبح رئيس مجلس الشعب المصري. وظل المحجوب على مدار ثلاثين عامًا يدرس مادة النظرية الاقتصادية والمالية العامة بالكلية وهو في مناصبه المختلفة حتى نهاية العام الدراسي في يونيو 1990، قبل استشهاده بأربعة أشهر في 12 أكتوبر 1990.
كلما دخل مبنى الكلية، كان ينظر إلى لوحة إنشاء الكلية التي يتوجها اسم الأستاذ الدكتور زكي شافعي، ويقرأ الفاتحة على روح أخيه الأكبر، الذي توفاه الله قبل المحجوب ببضع سنوات. #مذكرات_رفعت_المحجوب
عمالقة الاقتصاد والعلوم السياسية في مصر:
رحم الله جيلاً عملاقاً من أساتذة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، من علماء مصر الكبار، على سبيل المثال لا الحصر:
- زكي شافعي
- بطرس غالى
- حامد ربيع
- فؤاد هاشم
- احمد أبو إسماعيل
- سعيد النجار
- رمزي زكي
- أحمد الغندور
- عبد الملك عودة
- عمرو محي الدين
- أحمد الصفتي
- فتح الله الخطيب
- صليب روفائيل
- عبد المجيد فراج
- خيري عيسى
- عبد الفتاح قنديل
- أحمد رشاد موسى
- أحمد رشيد
- إبراهيم صقر
- محمد خليل برعي
- مدني دسوقي
- كمال المنوفي
- ذكي عزمي
- محمود عبد الفضيل
- هناء خير الدين
- و بالطبع رفعت المحجوب
رحمة الله عليهم جميعًا.
القصة بقلم الدكتور أيمن رفعت المحجوب : قصة إنشاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جريدة الجمهورية الجديدة